في مذكراته التي تحمل عنوان “اسطنبول” يخصص الكاتب التركي أورهان باموك، الحائز على جائزة نوبل للآداب قبل سبعة أعوام، فصلاً كاملاً للحديث عن مفهوم الحزن، وعلاقته بالمدينة التي أحبها و ترعرع بها. و يتطرق إلى (مركزية) الحزن في ثقافة اسطنبول، في الشعر، والموسيقى والفنون الجميلة، لأن أهل المدينة العريقة يعتبرونه، أي الحزن، شرفاً لهم. و يحاول باموك، وببراعة متناهية، فهم شدة هذا الحزن من خلال شرح تاريخ المدينة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية. والمهم أن هذا الحزن الكبير تحول من مفهوم روحاني إلى حالة عقلانية مرتبطة بالحياة اليومية المعاشة في اسطنبول.
ثم يتطرق الكاتب إلى فهمه الخاص للحزن الجماعي في مدينته، ليس من منطلق رومانسي غربي مرتبط بعزلة الفرد ووحدته وحنينه للماضي، و لكن لما أسماه (المزاج الأسود) الجمعي للملايين من البشر، حزن مدينة بأسرها! وفي رأيه فانه حزن يربط أهل المدينة بعضهم ببعض.
إذاً هو حزن مختلف عن رومانسية القرن التاسع عشر، حزن يرى سكان المدينة أنفسهم به ويقبلونه بشكل جماعي. وهكذا تصبح المدينة نفسها تجسيداً ملموساً له من حيث الذاكرة والمكان.
وهنا أتحول إلى غزة والحزن الجماعي الذي تراه بسهولة واضحة في شوارعها، بيوتها، مدارسها، جامعاتها، سينماتها المدمرة، بحرها الأزرق، حدودها المغلقة، في عيون نسائها، ورجالها وأطفالها! وفي هذا السياق فانني لا أكتب عن حزن المدينة/القطاع/المخيم/البانتوستان، بل، كاسطنبول، فإن الحزن الغزّي هو ذلك الذي نرى أنفسنا به ككيان واحد، ليس حزناً وجودياً فردياً بالمفهوم السارتري، بل حزن مدينة/قطاع. و كاسطنبول، تتحول المدينة إلى تجسيد مادي لهذا الحزن، ولكنه غير مرتبط بامبراطورية زائلة ولا مجد مضى!
إنه الحزن الذي نراه في عيون أطفال ذهبوا للعب كرة القدم بعد دوامهم المدرسي فرأوا أشلاء رفاقهم ممزقة على أرض الملعب!
في قوارب الصيادين الخاوية عند عودتهم قبل شروق الشمس حيث لم يسمح لهم بالصيد في مسافة تتعدى الثلاثة أميال!
في نظرة مريض سرطان يحتاج لحقنة يومية امتنعت إحدى وزارتي الصحة عن توفيرها!
في صرخة الكهل الذي فقد 28 من أفراد عائلته ولم يبق إلا هو ليصبح الجد والأب والأم والأخ والأخت لحفيده الناجي الوحيد من المجزرة!
في إحباط طالب جامعي عاد للبيت قبل غروب الشمس للتحضير لامتحانات الغد فوجد المنزل مظلماً و الشموع مطفأة!
في نظرة أب لم يستطع توفير رغيف خبز وصحن زعتر لبناته الأربع وزوجته المقعدة!
في صرخة امراة حملت طفليها وهرولت مسرعة من البيت تحت سماء ليلية مضاءة (بألعاب نارية) فسفورية!
في عويل عائلة دُمِّر بيتها بالكامل في ليلةٍ شتويةٍ قارسة!
في صراخ طفلٍ لا يحتمل برد الخيمة التي وفرتها بعض لجان الإغاثة!
في كرامةٍ مهدورةٍ لرجل على أبواب وكالة الغوث الدولية ينتظر 2.5 كيلو سكر و 3.75 كيلو طحين ليطعم أطفاله السبعة الجوعى الذين ينتظرونه في البيت/الغرفة في مخيم جباليا!
في نظرة طبيب يعلم أن مريضه سيموت خلال 24 ساعة إذا لم يتلق العلاج الضروري الذي لن يصل قريبا!
في صرخة طبيب آخر استقبل جثة طفل صغير قُتل في قصف الطائرات الإسرائيلية لمجمع سكني، ليجد أن الطفل ابنه الوحيد!
في بكاء طالبٍ حصل على منحةٍ للدراسة، في دولة أوروبية، ستضيع حتماً إذا لم يُسمح له بالعبور من
معبر رفح المفتوح جزئياً لعشرات الآلاف من المسافرين يسمح بدخول بضعة مئات منهم!
في عويل بنت على أبيها المصاب بمرض خبيث والذي ينتظر على المعبر منذ أسبوع!
في الفراغ الغريب في عيون آلاف من المسافرين في صالة أبو يوسف النجار في انتظار أن يسمح لهم
بركوب الحافلات التي ستقلهم لمعبر رفح، و الذي أعلن للتو عن إغلاقه لسبب لا يهمهم أن يسمعوه!
في عيون أمٍ ذهب إبنها (لزيارة صديقه على الحدود الشمالية) ولم يعد!
في دموعِ طالبةٍ جامعيةٍ سمعت كلاماً قاسياً على مدخل جامعتها ومُنعت من الدخول لمحاضرتها بسبب لباسها (غير المحتشم!)
في تساؤلات عروسٍ كتب الحرف الأول فقط من اسمها على بطاقة الدعوة لزفافها خوفاً من أن يعرف القاصي و الداني اسمها (وتصير فضيحة!)
في دهشةِ مريضٍ سمع للتو أن جوازسفره الفلسطيني لن يُجدد (لأسباب امنية!)
في بكاءِ بنتٍ جميلة (وافقت) على الزواج من ابن عمها الذي تربت معه في منزل واحد!
في نحيبٍ مكتومٍ لامرأة ذهبت لطلب يد امرأة أخرى لزوجها!
في نظرةٍ زائغةٍ لزوجة ثالثة لرجل في منتصف العمر ادعى العدل ولكنه امضى الليلة مع الزوجة الرابعة!
في تساؤلاتِ محبٍ للقراءة ذهب ليشتري روايتي “عمارة يعقوبيان” و“شيكاجو” للكاتب العالمي علاء الأسواني ليكتشف انهما ممنوعتان!
في بكاءِ طفلةٍ رضيعةٍ تموت جوعاً بعد جفاف ثديي أمها وعدم توفر الحليب اللازم!
في دعاءِ أمٍ لابنها الذي ذهب ليحفر خندقاً لتوفير الحليب للطفلة التي تبكي، وقصف الخندق ولم يعد الابن!
في الشهيقِ الأخيرِ لحاجٍ ظل حاملاً مفتاح بيته في تلك القرية التي دمرت عن بكرة أبيها!
في دهشةِ أكاديميٍ يسأل عن سبب غياب طلابه، ليبلغ أنهم لا يملكون أجرة المواصلات!
في فجيعةِ البنت ذات ال12 عاماً التي قتل والداها وأخويها وبترت ساقاها!
في كلماتِ الطفلة التي دعت رب العباد ألا يتم قتل أبويها وإخوتها قبل أن تموت هي!
في صرخةِ فتى على أمه التي استنشقت الفوسفور لمدة طويلة فتليفت رئتيها حتى الموت!
في عيني شيخٍ ذهب لصلاة الفجر في مسجد لم يعد مسجداً!
في نظرة مدرس في إحدى مدارس الأونروا تم فصله لأنه حضر احتفالاً لتخليد أعز اصدقائه الذي استشهد قبل عام!
في استغرابِ رجلٍ (علماني) قُطع راتبه الحكومي بسبب لحيته!
في وجهِ طالبة ثانوية (مسيحية) أنبتها المديرة بصوت عال أمام الجميع بسبب عدم تغطية شعرها!
في لوعةِ صبيةٍ قُتلت اختها على خلفية (شرف) لتجد العائلة أن القتيلة عذراء!
في غضبِ أكاديميةٍ حاصلةٍ على شهادة دكتوراة بامتياز ولم توظف في إحدى الجامعات لأنها لا تحمل الهوية السياسية (الأيديولوجية) المطلوبة!
في زوغان نظرات رجل خمسيني قضى حياته عضواً في فصيل يساري ليرى قائده ينتقد (المفاوضات العبثية) ولكنه يتلقى راتباً ممن يفاوض!
في دهشة ناشط احتفل أمس بانطلاقة فصيله (الطليعي)، و سمع عن اطلاق قذائف هاون، وسمع خطاباً حماسياً لقائدٍ مغوارٍ بهذه المناسبة، ليجد في اليوم الثاني القائد وقد سمح له بالعبور من معبر بيت حانون متوجهاً لرام الله!
في لوعة أم فقدت أبناءها الثلاثة في مجزرة 2009 و سمعت للتو أن القيادة الفلسطينية طلبت تأجيل التصويت على تقرير جولدستون في مجلس حقوق الانسان التابع للامم المتحدة!
في استغراب ناشط مقاطعة من السماح للموسيقار الإسرائيلي الذي ألقى باللوم على أهل غزة خلال مجزرة 2009، واعتبر ياسر عرفات إرهابياً خلال حصاره في رام الله، بالعزف في مطعم على شاطئ المدينة!
في لوعة أم الشهيد وهي تسمع أن راقصة اسرائيلية دعيت للرقص بمناسبة راس السنة في فندق بمدينة رام الله!
في لحن عازف العود الموهوب الذي لا يجد من يسمع موسيقاه!
في صوت المغني جميل الصوت الذي لم يعد يذكر آخر حفلة أقامها!
في عيني ناشطة سألها المحقق الأمني إن كانت تستمع لأغاني مارسيل خليفة ومحمد منير!
في حيرة الأكاديمي الذي ( اكتشف) أن منظمة أمريكية تطبيعية تجند زملاءه وطلابه لزيارة الولايات المتحدة في مشاريع (حوارية) مشتركة مع (الطرف الآخر!)
في عيون عشرات آلاف الطلاب الذين ينتظرون باصاً صباحياً!
الأطفال الذين يذهبون لرياضهم يرسمون فيها دبابة ميركافا وطائرة ف16 وقنبلة فوسفور!
العمال الذين لم يعودوا عمالاً!
وفي عدم تصديقِ لاجئٍ ثمانينيٍ لأذنيه هو يسمع أن عودته لقريته سيتم التفاوض عليها أملاً في الوصول لحل عادل لقضيته (حل واقعي لا يشمل حق العودة!)
...
إذاً هو ليس حزناً رومانسياً أو تساؤلاً وجودياً ذلك الذي تراه في شوارع غزة. بل هو حالة شديدة الخصوصية لم يجد أهل غزة لها إلا اسماً لم يستخدم من قبل لا في وصف ريف الشاعر الرومانسي وليام ووردزوورث، ولا جزائر البير كامو، أو باريس جان بول سارتر.
هي حالة يطلق عليها الغزيون اسم (فقدان!) (لفظ القاف على الطريقة الصعيدية) كلمة يفهمها أهل القطاع على أنها خليط من النسيان، والتناسي، والإنكار، والتوهان، و عدم التركيز، وزوغان العيون، مصحوبة بقدرة هائلة على تحويل الهم الكبير إلى طاقة ملهمة لحالة من العناد لا تسعد لا بنيامين نتانياهو ولا أفيجدور ليبرمان، ولا حتى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية!